يقول الإمام ابن القيم رحمه الله:
إن في إخفاء الدعاء فوائد عديدة..
أحدها: أنه أعظم إيمانا ، لأن صاحبه يعلم أن الله يسمع دعاءه الخفي. وليس كالذي قال: إن الله يسمع إن جهرنا، ولا يسمع إن أخفينا.
وثانيها: أنه أعظم في الأدب والتعظيم. ولهذا لا تخاطب الملوك ولا تسأل برفع الأصوات، وإنما تخفض عندهم الأصوات، ويخف عندهم الكلام بقدر ما يسمعونه ومن رفع صوته لديهم مقتوه، ولله المثل الأعلى. فإذا كان ربنا يسمع دعاء الخفي فلا يليق بالأدب بين يديه إلا خفض الصوت به.
ثالثها: أنه أبلغ في التضرع والخشوع الذي هو روح الدعاء ولبه ومقصوده. فإن الخاشع الذليل الضارع إنما يسأل مسألة مسكين ذليل إذا انكسر قلبه، وذلت جوارحه، وخشع صوته، حتى* إنه ليكاد تبلغ به ذلته ومسكنته، وكسرته، وضراعته إلى أن ينكسر لسانه فلا يطاوعه بالنطق. فقلبه سائل طالب مبتهل، ولسانه لشدة ذله وضراعته ومسكنته ساكت. وهذه الحالة لا يتأتى معها رفع الصوت بالدعاء أصلا.
ورابعها: أنه أبلغ في الإخلاص.
وخامسها: أنه أبلغ في جمعية القلب على الله في الدعاء. فإن رفع الصوت يفرقه ويشتته. فكلما خفض صوته كان أبلغ في حمده وتجريده همته وقصده للمدعو سبحانه وتعالى.
سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر |
وسادسها: وهو من النكت السرية البديعة جداـ أنه دال على قرب صاحبه من الله، وأنه لاقترابه منه، وشدة حضوره يسأله مسألة أقرب شيء إليه. فيسأله مسألة مناجاة القريب للقريب، ولا مسألة نداء البعيد للبعيد. ولهذا أثنى سبحانه وتعالى على عبده زكريا بقوله ((إذ نادى ربه نداءا خفيا)) فكلما استحضر القلب قرب الله منه. وأنه أقرب إليه من كل قريب ، وتصور ذلك أخفى دعاءه ما أمكنه ولم يتأت له رفع الصوت به، بل يراه غير مستحسن كما أن من خاطب جليسا له يسمع خفي كلامه فبالغ في رفع الصوت استهجن ذلك منه ولله المثل الأعلى سبحانه. وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بعينه في قوله في الحديث الصحيح . لما رفع الصحابة أصواتهم بالتكبير وهم معه في السفر فقال: "أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته" وقال تعالى ((وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان)) وقد جاء أن سبب نزولها : أن الصحابة قالوا : يا رسول الله ربنا قريب فنناجيه؟؟ أم بعيد فنناديه؟؟ فأنزل الله عز وجل ((وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان)) وهذا يدل على إرشادهم للمناجاة في الدعاء ، لا للنداء الذي هو رفع الصوت فإنهم عن هذا سألوا ، فأجيبوا بأن ربهم تبارك وتعالى قريب لا يحتاج في دعائه وسؤاله إلى النداء ، وإنما يسأل مسألة القريب المناجى ، لا مسألة البعيد المنادى.
وهذا القرب من الداعي هو قرب خاص، ليس قرب عاما من كل أحد، فهو قريب من داعيه وقريب من عابده، "وأقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد" وهو أخص من قرب الإنابة وقرب الإجابة، الذي لم يثبت أكثر المتكلمين سواه، بل هو أقرب خاص من الداعي والعابد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم راويا عن ربه تبارك وتعالى: "من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا" فهذا قربه من عابده. وأما قربه من داعيه وسائله فكما قال تعالى ((وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان))
وسابعها: أنه أدعى إلى دوام الطلب والسؤال، فإن اللسان لا يمل والجوارح لا تتعب، بخلاف ما إذا رفع صوته فإنه قد يكل لسانه وتضعف بعض قواه. وهذا نظير من يقرأ ويكرر رافعا صوته، فإنه لا يطول له ذلك بخلاف من يخفض صوته.
وثامنها: أن إخفاء الدعاء أبعد له من القواطع والمشوشات والمضعفات. فإن الداعي إذا أخفى دعائه لم يدر به أحد فلا يحصل له هناك تشويش ولا غيره، وإذا جهر به تفطنت له الأرواح الشريرة والباطولية الخبيثة من الجن والإنس، فشوشت عليه ولا بد، ومانعته وعارضته ولو لم يكن من ذلك إلا أن تعلقها به يفرق عليه همته فيضعف أثر الدعاء لكفى. ومن له تجربة يعرف هذا. فإذا أسر الدعاء وأخفاه أمن هذه المفسدة.