أعظم ما خلق الإنسان لأجله، هو عبادة الله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}. ثم عمارة الأرض، لكن عليه أن يبتغ فيما آتاه الله الدار الآخرة، ولا ينس نصيبه من الدنيا؛ أي يجعل همه الآخرة، والدنيا وعمارتها تابع وخادم ووسيلة للعبادة.
وأداء العبادة إنما يكون بالتأني، وقد أمر الله تعالى به، فقال: {وقوموا لله قانتين}.
أي خاشعين؛ لأن القنوت هو الخشوع، وهو لا يتأتى إلا بالتأني، وقد مدح المؤمنون به: {قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون}. ومعنى التأني: استكانة وذلة الجوارح والقلب حين العبادة. وهي أحوال شريفة لا تحصل مع العجلة.
وفي وصية النبي صلى الله عليه وسلم، الأمر بالسكينة عند الصلاة:
(إذا سمعتم النداء فامشوا، وعليكم السكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا) [البخاري/الصلاة/لا يسعى إلى الصلاة إلا بالسكينة والوقار 610]
وقالإذا أقيمت الصلاة، فلا تقوموا حتى تروني، وعليكم بالسكينة).[البخاري/الصلاة/لا يسعى إلى الصلاة مستعجلا، وليقم بالسكينة والوقار 612]
فهذه ثلاثة اصطلاحات شرعية، هي: القنوت، والخشوع، والسكينة. كلها دالة على وجوب وحسن التأني والتمهل، في أداء العبادة، وذم الاستعجال والنهي عنه.
وقد عد العلماء "الطمأنينة" في أداء الصلاة من أركانها، فأبطلوا صلاة غير المطمئن، وهو الذي ينقص من صلاته، فلا يتم ركوعها حتى يستوي راكعا، ولا سجودها حتى يستوي ساجدا، ولا جلوسه حتى يستوي جالسا، إنما ينقرها كنقر الغراب.
وقد استفادوا ذلك، من حديث المسيء صلاته، حيث رآه النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ولا يتم، فناداه وعلمه، وقال له: (ارجع فصل، فإنك لم تصل). فالطمأنينة مصطلح شرعي رابع، دال على وجوب التأني في أداء العبادة.
ومن تمام التأني، التقدم بين يدي الصلاة بحضور مبكر قبل الإقامة، استعدادا لها، وهذا جاء في وصايا نبوية كثيرة، مثل قوله: (إذا سمعتم النداء فامشوا). أي بادروا مع الأذان.
ورغب في انتظار الصلاة، والصبر وعدم الملل وضيق الصدر، لدقائق معدودة، يمكث المرء أكثر منها في لهو ولعب، وأشياء لا معنى لها، فقال:
(إن أحدكم في صلاة، ما دامت الصلاة تحبسه، والملائكة تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم يقم من مصلاه أو يحدث). [البخاري]
فالمنتظر له أجر المصلي، وهو ثواب عظيم، عن عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (القاعد على الصلاة كالقانت، ويكتب من المصلين، من يخرج من بيته، حتى يرجع إليه). [ابن حبان في صحيحه، صحيح الترغيب 1/183]
إن التبكير وانتظار الصلاة، سبب في الخشوع والطمأنينة؛ إذ بهما يحصل التهيؤ للصلاة، عكس التأخير والاستعجال، والصلاة أعظم الأركان بعد الشهادة، وهي لا تسقط أبدا، إلا في حال الجنون وعدم التكليف، وتلازم المسلم خمس مرات في اليوم، فهي عمود الإسلام، وأول ما يسأل عنه، وقد وصى النبي صلى الله عليه وسلم بها في فراش موته: (الصلاة، الصلاة، وما ملكت أيمانكم).
وقد بشر المحافظ عليها في أوقاتها مع الخشوع بالمغفرة، فقال: (خمس صلوات افترضهن الله عز وجل، من أحسن وضوءهن، وصلاهن لوقتهن، وأتم ركوعهن، وسجودهن، وخشوعهن، كان له على الله تعالى عهدا أن يغفر له، ومن لم يفعل فليس له على الله عهد، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه). [صحيح أبي داود].
ثم إنه أخبر أن أول ما يرفع من الدين: الخشوع في الصلاة. أي يصيب الناس العجلة، ويملوا التأني والطمأنينة والسكينة، وأخبر عن نقصان ثوابهم من الصلاة فقال: (إن العبد ليصلي الصلاة، ما يكتب له منها إلا عشرها، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها). [أبو داود]
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبتدئ صلاة الفجر بطوال المفصل؛ فيقرأ بالواقعة، والطور، والصافات، وأحيانا يقرأ بـ ق~ في الأولى، وربما قرأ بقصار المفصل، كسورة إذا الشمس كورت. وفي فجر الجمعة بالسجدة والإنسان.
وفي الظهر يطيل، حتى يذهب الذاهب إلى البقيع، فيقضي حاجته، ثم يأتي منزلته ويتوضأ، ثم يأتي الصلاة في الركعة الأولى، وربما خفف فصلى بقصار المفصل، كالطارق والبروج والليل. وفي العصر دون الظهر.
وفي المغرب بقصار المفصل، وأحيانا بطواله، فقرأ مرة بالأعراف، ومرة بالطور. وفي العشاء بالشمس وضحاها، والانشقاق ونحوهما، ونهى معاذا عن الإطالة فيها.
هذه هي صلوات النبي صلى الله عليه وسلم، قد كانت بين الإطالة والتخفيف، بحسب الحاجة، فالفجر أطولها والظهر، وخفف فيهما أيضا، والمغرب والعشاء أقصرها. وأطال في المغرب مرة.
* * *
سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر |
ومن التأني في العبادة: الخشوع، والسكينة, والطمأنينة يوم الجمعة. بالتكبير، وحضور الخطبة، والصلاة. وخطبه صلى الله عليه وسلم كانت معتدلة في مدتها، قالت أم هشام بنت الحارث بن النعمان: ( لقد كان تنورنا وتنور رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا، سنتين أو سنة وبعض سنة. وما أخذت (ق~ والقرآن المجيد) إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر. إذا خطب الناس) مسلم
وعن عمرة بنت عبد الرحمن، عن أخت لها قالت: (أخذت (ق~ والقرآن المجيد) من فيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم الجمعة، وهو يقرأ بها على المنبر، في كل جمعة) مسلم
هاتان الروايتان تفيدان كثرة قراءة النبي صلى الله عليه وسلم لسورة ق~ في خطبة الجمعة، قال ابن القيم: "حفظ من خطبه صلى الله عليه وسلم، أنه كان يكثر أن يخطب بالقرآن وسورة ق~". زاد المعاد 2/424
وقراءة هذه السورة كقراءته صلى الله عليه وسلم؛ ترتيلا لا هذّاً ولا عجلة، بل قراءة مفسرة حرفا حرفا، يقف عند رؤوس الآيات، يمد حروف المد، ويؤدي أحكام التجويد تامة: تستغرق ما يقرب من ثنتي عشرة دقيقة.
فإذا أضيف إليها أنه يبتدئ خطبه بالحمد والثناء، ثم يقول: (من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وخير الكتاب كتاب الله..) إلى آخر ذلك، كما روى جابر عند مسلم في الجمعة. ثم الخاتمة بدعاء والاستغفار ونحو ذلك: فإن مدة خطبه كانت حوالى خمس عشرة دقيقة، ربما زادت عن ذلك، وربما قلت عن هذا الحد، بحسب الحاجة.
في ضوء هذا التحديد نفهم قوله صلى الله عليه وسلم: (إن طول صلاة الرجل، وقصر خطبته، مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة، واقصروا الخطبة، وإن من البيان لسحرا). رواه مسلم عن عمار
فليس المعنى خطبة قصيرة إلى حد التخفيف البيّن، إنما بين الطول والقصر، روى جابر بن سمرة قال: (كنت أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت صلاته قصدا، وخطبته قصدا). [مسلم]؛ أي بين الطول الظاهر، والتخفيف الماحق.
هذا أمر، وأمر آخر: أن قصر الخطبة ليس مطلقا، بل بالنسبة للصلاة، فالسنة أن تكون الصلاة أطول دائما من الخطبة، على أن تكون الخطبة بحدود الخطبة النبوية، كما تقدم حوالى خمس عشرة دقيقة، تزيد قليلا، وليس المعنى أن يختصر في الخطبة، حتى تكون دقائق معدودة، وقد كان عليه الصلاة والسلام يقرأ في المجامع الكبار كالأعياد بـ ق~ والقمر، وصلاة بهما كصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، تستغرق حوالى نصف ساعة، فلو خطب بثلث ساعة، لكانت الخطبة أقصر من الصلاة. وقريبا من مدة خطبته عليه السلام، ولم يكن بذلك مخالفا للسنة النبوية في الخطبة، كما يظن بعض الناس.
إن المستمع للخطبة له ثواب وأجر المصلي؛ لأنه في صلاة، ما دام ينتظر باستماعه الجمعة، وإن الخطبة اليوم أضحت المصدر الوحيد لتعليم كثير من الناس دينهم، وإذا الفهوم قصرت، والمشكلات والشبهات كثرت: جاز التوسع في مدة الخطبة أكثر من ذلك؛ لأن تعليم الناس دينهم من المقاصد الكبرى للدين.