سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر |
خلال إتمام الاستعدادات لشن الهجوم البري الذي تقوده الولايات المتحدة في الحرب الأولى مع العراق وجه صدام حسين إحباطه في 24 فبراير (شباط) 1991 إلى هدف غير متوقع هو الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف الذي أرسل إليه وزير خارجيته طارق عزيز في مهمة استغرقت 11 ساعة في محاولة منع للحيلولة دون بدء الحرب البرية.
وبعد حث غورباتشوف له على الانسحاب، وافق صدام حسين على سحب القوات العراقية من الكويت في غضون 21 يوما، لكن كان واضحا أن الولايات المتحدة ماضية قدما في تنفيذ حملتها البرية.
وكتب صدام حسين في خطاب مؤثر إلى الزعيم السوفياتي في الليلة التي سبقت الغزو «شعبي والجيش في حالة من الحيرة، ونحن نسأل أنفسنا أي الخيار أكثر أهمية بالنسبة لنا أهو المقترح السوفياتي أم التهديد الأميركي؟».
خلال حديثه إلى مساعديه، كان صدام حسين أقل دبلوماسية، فنعت غورباتشوف بـ«النذل» الذي يفتقر إلى الإرادة أو القدرة على التأثير على قرارات الرئيس جورج بوش الأب، وقال صدام: «لقد خدعنا، كنت أعلم أنه سيخوننا».
هذا الكشف عن مشاورات صدام حسين السرية التي جرت في اليوم الأول لحرب الخليج البرية موثق في أرشيف عراقي يضم 2.300 ساعة من التسجيلات للاجتماعات وملايين من صفحات الوثائق استولت عليه الولايات المتحدة في أعقاب الغزو عام 2024.
وبمناسبة الاحتفال بالذكرى العشرين لعملية «عاصفة الصحراء» التي بدأت في 17 يناير (كانون الثاني) 1991 تم الإفراج عن النصوص الكاملة لثلاثة قرارات مصيرية اتخذها صدام حسين. وتم توثيق تاريخ الحرب بالكامل بصورة جيدة، لكن النصوص الثلاثة لتقدم تفاصيل جديدة لما كان يدور داخل القيادة العراقية ومن بينها غضب صدام حسين على غورباتشوف وسوء تفسيره للأعمال العسكرية للولايات المتحدة.
ومع ورود كم قليل من المعلومات من ساحة المعركة وغرفة مليئة من المساعدين المتحفزين للتهليل لأقل قدر من النجاح بدا صدام حسين مقتنعا بأن الولايات المتحدة افتقرت إلى التصميم لشن حرب أرضية، كما أظهرت النصوص. وتوقع أن الولايات المتحدة ستتردد في اتخاذ القرار. وأبلغ مساعديه بأن إشعال النار في آبار النفط الكويتية الذي سيعوق طائرات الحلفاء الحربية كان تكتيكا حربيا جيدا لن يغضب العالم. وظل هو ومساعدوه يخطئون في قراءة الإشارات بشأن ما إذا كان الهجوم البري قد بدأ بالفعل.
يتضح من خلال دراسة أرشيف مواز للنصوص المفرج عنها في مكتبة جورج بوش الرئاسية في جامعة إيه آند إم بتكساس، أن التسجيلات العراقية تصور غورباتشوف بالمتلهف للتوصل إلى حل يحمي مصالح الاتحاد السوفياتي، وجعل السوفيات في مقابل الشريك مع الولايات المتحدة في الدبلوماسية الدولية، وأنه كان غير راغب في تعريض علاقاته الطيبة مع إدارة جورج بوش للخطر.
وتظهر الوثائق جورج بوش كزعيم يسعى إلى تهدئة غورباتشوف على الرغم من تمسك الولايات المتحدة بمطلبها المتمثل في انسحاب القوات العراقية غير المشروط من الكويت. قال بوش في محادثة هاتفية مع غورباتشوف في 22 فبراير 1991: «نحن ندرك جيدا مصالح الاتحاد السوفياتي في المنطقة، ومن ثم أطلب منك أن تخرج قواتنا من هناك في أقرب وقت ممكن، فأنا أعلم بما يشعر به الإيرانيون ودول المنطقة الأخرى».
وبعد الحملة الجوية التي نفذت في الأول من يناير تسارعت وتيرة الاستعداد للقيام بهجوم أرضي. وقد شهدت الأيام القليلة التي سبقت الحرب جهودا مكثفة من جانب غورباتشوف للتوصل إلى اتفاق سلام، فوصل وزير الخارجية العراقي طارق عزيز إلى موسكو في 21 فبراير. وفي وقت متأخر من ذلك اليوم أخبر الرئيس الروسي نظيره الأميركي في محادثة هاتفية بأنه يستشعر تحولا جادا في الموقف العراقي بحسب نصوص أحد التسجيلات التي نشرت في مكتبة بوش. وأكد غورباتشوف أن العراق لم يعد يطالب بربط قرار أزمة الخليج بأي من القضايا الأخرى في الشرق الأوسط. وعلى الرغم من مطالبة العراقيين في بادئ الأمر بمنحهم ستة أسابيع لمغادرة الكويت، فإن السوفيات أصروا على ضرورة اختزال هذه الفترة إلى 21 يوما. هذا الجدول الزمني كان أقل بكثير مما طلبه الرئيس بوش بأن يقوم الرئيس العراقي بسحب قواته دون شروط ودفع تعويضات للكويت وأن يتم التوصل إلى خطة للتعامل مع الغاز السام والأسلحة البيولوجية وبرنامج الأسلحة النووية العراقية.
بيد أن جهود غورباتشوف الدبلوماسية قوضت في 22 فبراير عندما اشتعلت آبار النفط الكويتية التي أمر صدام حسين بإضرامها لأنه رأى فيها إجراء دفاعيا ووصفت هذه الخطوة من قبل الرئيس بوش في محادثة له مع نظيره السوفياتي بأنها سياسة الأرض المحروقة وسبب لعدم تأخير العمل العسكري. وقال بوش إن أمام العراقيين سبعة أيام لا أكثر لسحب قواتهم من الكويت، ووضع مهلة نهائية للبدء في ذلك قبل ظهيرة اليوم التالي.
في اليوم التالي (23 فبراير) وقبل دقائق من نهاية المهلة التي حددها الرئيس بوش، تحدث الرئيس الأميركي مع نظيره السوفياتي قال خلالها الأخير إن العمل الأميركي – السوفياتي المشترك عبر الأمم المتحدة سيقيم نموذجا للتعامل مع القضايا الأخرى. وقال غورباتشوف: «جورج، دعنا نحافظ على هدوئنا، فصدام يريد ثبات الموقف، لكننا لن نكون سذجا». لكن صبر بوش كان قد نفد، فقال: «ميخائيل، أنا أقدر هذه الروح التي تتحدث بها، لكني لا أود أن أترك انطباعا خاطئا أي وقت أكثر من ذلك. إذا كان العراقيون ينوون الالتزام بمطلب الانسحاب فعليهم تنفيذه في غضون الدقائق القليلة المقبلة».
في صباح اليوم التالي كان الرئيس العراقي ينتظر بترقب أي شيء من وزير خارجيته الذي غادر إلى موسكو، وسأل الرئيس العراقي: «متى سيعود الرفيق طارق؟». أخبره مساعدوه بأن عزيز لم يصل إلى الآن إلى بغداد، تساءل صدام: «ماذا تعني بأنه لم يصل بعد؟»، وقرأ أحد العناوين التي تقول: «طارق عزيز يصل إلى بغداد».
وبينما ينتظر حضور الوزير أعطى صدام تعليماته لمساعديه بقراءة رسالة بعث بها إلى غورباتشوف في الليلة السابقة يسأل الرئيس السوفياتي عن السبب في عدم بذل المزيد من الجهود لمعارضة قرار الرئيس بوش بدء العمليات البرية، فكتب له صدام: «لقد وثقنا بك». بدا الرئيس العراقي المعتقد بفكرة المؤامرة متحيرا وغاضبا.
ويقول ديفيد بالكي، نائب مدير مركز الأبحاث الذي يضم أرشيف صدام حسين المفرج عنه: «كما هو الحال، شك الرئيس العراقي في أن العراقيين تعرضوا للخيانة، وهذه المرة عن طريق جهود الوساطة السوفياتية المخادعة».
كان رد غورباتشوف غير مطمئن، فكتب أن بوش لم يوافق على المقترح السوفياتي وأنه إن كان صدام حسين يرغب في تجنب عملية برية فإن عليه الانصياع الكامل للمطالب بإصدار بيان يقول فيه إن العراق سيسحب قواته في غضون 9 و10 أيام وهو الوقت الأقرب إلى المهلة التي حددها الرئيس بوش. وعندما وصل عزيز في نهاية الأمر لرؤية صدام حياه الزعيم العراقي بضحكة قائلا: «هل ستفاجأ مثل بوش».
لتضليل الطائرات الحربية الأميركية عمد طارق عزيز إلى العودة إلى العراق عبر الأردن وسافر برا إلى بغداد. وكطالبين مراهقين يتحدثان حول أكثر السيارات قوة، تحدث الرئيس العراقي ووزير خارجيته حول مدى سرعة الانطلاق على الطرق العراقية. فقال عزيز: «نحن نسير بسرعة 220 كيلومترا على الطرق السريعة».
لم يعلق أي مسؤول أملا في الحصول على دعم من دول الجوار العراقية، وتحدث أحد المساعدين بشأن إيران التي انتهت حرب الثماني سنوات معها عام 1988، فقال عزيز: «عقدنا اتفاقا مع الإيرانيين هذه المرة»، فأضاف صدام: «ككل الثورات الجديدة، إنهم يتحدثون كثيرا».
ونتيجة لضعف المعلومات الاستخبارية فشل صدام حسين وقادته في فهم الاستراتيجية المضادة، فقد اعتقد العراقيون باحتمال قيام الولايات المتحدة بعملية إنزال برمائية، ثبت فيما بعد أنها كانت خدعة الهدف منها تضليل القوات العراقية.
وأخطأ الرئيس العراقي في بداية الأمر في قراءة بعض أعمال الاستكشاف العسكرية الأميركية التي كانت إشارات على الإعداد لهجوم كبير. وقال صدام: «لو أن تلك الإشارات كانت الصدمة الأولى لفشل الهجوم». لكن مع انتهاء اليوم اتضحت خطورة الموقف أكثر، فمع عدم قدرتهم على التفاوض للوصول إلى تسوية وفق شروطهم تكهن المسؤولون العراقيون أن تؤدي خسائر القوات الأميركية في الهجوم البري بالرئيس بوش إلى التراجع في مطالبه.
وقال عزيز: «لندع الله أن يوفقنا لقتل أي عدد منهم، فهذا ما سيساعدنا في الحصول على النتائج».
وقال صدام بلهجة الواثق: «دعوهم يأتوا إلى مدينة كربلاء، لتكون مقبرتهم».