تواضع النبي الأكرم ووفاؤه
سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر |
أ.د. قصي الحسين:
كان النبي صلى الله عليه وسلم، على علو منصبه ورفعة رتبه، أشد الناس تواضعاً. وقد كان له أن يختار بين أن يكون نبياً ملكاً أو نبياً عبداً، فاختار أن يكون نبياً عبداً.
وفي حديث أورده مسلم في صحيحه (188) أن سيدنا إسرافيل قال له عندما اختار أن يكون نبياً عبداً: "إن الله قد أعطاك بما تواضعت له، أنك سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من تنشق الأرض عنه، وأول شافع". أي أول شفيع في الجنة.
وعن أبي مرزوق عن أبي غالب، عن أبي أمامة، قال: "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكئاً على عصا، فقمنا له. فقال: لا تقوموا كما تقوم الأعاجم، يعظم بعضها بعضاً. وقال: إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد" يريد صلى الله عليه وسلم أنه ليس بسلطان.
"لا تطروني"
وفي حديث عمر رضي الله عنه أنه كان يقول: "لا تطروني (أي تمدحوني) كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله".
وفي حديث رواه أبو داود في سننه (2/189) عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن امرأة كان في عقلها شيء (أي من الجنون)، فقالت: إن لي إليك حاجة. قال: "اجلسي يا أم فلان في أي طرق المدينة شئت، أجلس إليك حتى أقضي حاجتك". قال أنس: فجلست، فجلس النبي -صلى الله عليه وسلم- إليها حتى فرغت من حاجتها.
وفي صحيح البخاري (8/17)، عن عائشة والحسن وأبي سعيد في صفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبعضهم يزيد على بعض: "كان في بيته في مهنة أهله (أي في خدمة أهله) يفلِّي ثوبه، ويحلب شاته، ويرقع ثوبه، ويخصف نعله ويخدم نفسه، ويقيم البيت ويعقل البعير ويعلف ناضحه (البعير الذي يستقي عليه) ويأكل مع الخدم، ويعجن معهم، ويحمل بضاعته من السوق".
وفي صحيح البخاري روى عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- من شدة تواضعه كان يقول: "لا تفضلوني على يونس بن متى، ولا تفضلوا بين الأنبياء، ولا تخيروني على موسى.."، ولأبي داود من حديث عبدالله بن جعفر: "لا ينبغي لنبي أن يقول: أنا أفضل من يونس بن متى" وفي الصحيحين من حديث ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهما: "ما ينبغي لعبد أن يقول إني خير من يونس بن متى" وقال للذي قال له: يا خير البرية: "ذاك إبراهيم" لأن الله أمره باتباع ملة إبراهيم.
وفي كتب الأحاديث والسير، يمكننا أن نستطلع من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه كان يركب الحمار ويردف خلفه، ويعود المساكين، ويجالس الفقراء، ويجيب دعوة العبد، ويجلس بين أصحابه مختلطاً بهم حيث انتهى به المجلس جلس. وفي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يركب الحمار، ويجيب دعوة العبد، وكان يوم قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف عليه إكاف (رحل يوضع على ظهر الحمار للركوب عليه، ويعرف بالبردعة). قال: وكان يدعى إلى خبز الشعير، والإهالة السنخة فيجيب".
وقال أنس: "وحج صلى الله عليه وسلم على رحل رثّ، وعليه قطيفة ما تساوي أربعة دراهم. فقال: "اللهم اجعله حجاً لا رياء فيه ولا سمعة". والرياء: ما يفعل من عبادة ونحوها لأجل أن يراه الناس، فيمدحوا صاحبه به، والسمعة: ما يفعل ليشيع ويسمع الناس به. وقد أهدى في حجه ذلك مئة بدنة (ناقة أو بقرة). ولما فتحت مكة عليه، ودخلها مع المسلمين طأطأ على رحله حتى كاد يمس قادمته تواضعاً للّه تعالى.
وفاء نادر
وقد ضرب المثل بوفاء النبي صلى الله عليه وسلم وحسن عهده وصلة الرحم. ويروي الترمذي في سننه (1/281) عن عبدالله بن أبي الحمساء، قال: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم ببيْع قبل أن يبعث، وبقيت له بقية. فوعدته أن آتيه بها في مكانه، فنسيت، ثم ذكرت بعد ثلاث، فجئت فإذا هو في مكانه. فقال: "يا فتى، لقد شققت عليّ، أنا ههنا منذ ثلاث أنتظرك".
وعن أنس رضي الله عنه: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتي بهدية قال: اذهبوا بها إلى بيت فلانة، فإنها كانت صديقة لخديجة. إنما كانت تحب خديجة" (صحيح البخاري: أدب). ودخلت عليه امرأة، فهش لها، وأحسن السؤال عنها، فلما خرجت قال: "إنها كانت تأتينا أيام خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان" (يريد رعاية العهود القديمة).
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم آمن الناس وأعدل الناس وأعف الناس، وأصدقهم مهجة منذ كان وقد اعترف له بذلك، مخالفوه ومحاربوه وأعداؤه. وكان يسمى قبل النبوة بالصادق الأمين، قال ابن اسحاق، ورواه أحمد في مسنده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "كان يسمى الأمين بما جمع الله فيه من الأخلاق الصالحة".
وقد وصفه تعالى بأنه: "مطاع ثَمَّ أمين" (التكوير: 21) وعن الربيع بن خيثم: "كان يتحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية قبل الإسلام. ولما اختلفت قريش وتحازبت عند بناء الكعبة فيمن يضع الحجر، حكموا أول داخل عليهم، فإذا بالنبي دخل، وذلك قبل نبوته. فقالوا: "هذا محمد الأمين قد رضينا به".
وقالت أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها كما روى مسلم في صحيحه (1813): "ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمرين إلاّ اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس عنه".
*المصدر: جريدة الخليج، ملحق "الدين والحياة"