تدسّ يدها تحت الوسادة باحثة عن “برقعها” فور سماعها وقع خطوات قادمة، ارتدته حشمةً أو حياءً أو عادة. لم تفقد فاطمة إبراهيم حسها الفكاهي على الرغم من تخطيها السبعين من العمر وتمضية سنواتها الأخيرة ملازمة الفراش، فبعد أن كانت تشغل يومها بالعمل والزيارات الاجتماعية في “الفريج” تمكنت السنوات منها، وبوفاة ابنها الأصغر وزوجها “بومايد” أصبحت الذكريات وقصص الأسرة الصغيرة والطريفة مصدراً للشجن.
حينما سألتها عن شعبيتها الكبيرة في الفريج واهتمام الغالبية بزيارتها أو بالسؤال عنها ابتسمت أم مايد وكأنها تأكدت من أن أسهم شعبيتها لا تزال مرتفعة في قلوب الناس، الشيء الذي جنته بشخصيتها الاجتماعية الخدومة. وتعود أم مايد بالذكريات لأيام الشباب: “كنت أمسح وأرفع البلاعيم وأمتّن”، فإذا ما اشتكت امرأة في منطقة الرمس برأس الخيمة أو أي طفل في الفريج من ألم في البطن أو فقدان الشهية يتم استدعاء أم مايد على الفور للمساح، وهي طريقة أشبه بمساج للبطن والظهر تعتمد على الضغط على أماكن معينة يعرفها المتخصصون بالمساح. أما بالنسبة لـ”رفع البلاعيم” أو اللّوز فتقوم أم مايد بتدليك الرقبة بأصابعها ثم تعقد طرف “الشيلة” عقدتين وتلفها حول عنق المريض وترفعها حتى يخف الألم المصاحب لالتهاب اللوزتين تدريجياً، أما التمتين فهو لآلام “اليامعة” أو الظهر، حيث تضع الحلبة مع الحناء على ظهر المريض وتلفه بقطعة قماش: “بعد ما أمتّن الياهل يغدي جنه فرارة” وحول امتهانها لهذه العلاجات تقول: “ما آخذ فلوس على المساح، أنا أدور الأجر من الله”..
ومن العلاجات القديمة والغريبة التي تتحدث عنها أم مايد هو ما يطلق عليه اسم “عقر بقر”، فعندما يشكو المريض من ألم الركبة وعدم القدرة على المشي يتم وضع روث البقر عليها وتلف بالقماش، فيتعافى المريض خلال فترة قصيرة ويتمكن من السير مجدداً.
“المطاف” هو مكان في رأس الخيمة شهد حكايات في الماضي، وهو عبارة عن مجموعة من الخيام التي يحفر الأهالي حولها لاستخراج الفخار، كما ينخلون التراب بالمنخل ثم يغسلونه في البحر بحثاً عن فتات الذهب. وللمطاف قصة مع أم مايد تشهد على الحالة الاقتصادية وسنوات الفقر والجوع التي مرت بها المنطقة، عندما زارهم ضيف غريب فطلبت جارتهم من ابنتها خدوي بنت خميس مرافقة أم مايد، التي لم تكن متزوجة آنذاك للذهاب إلى المطاف لشراء 12 حبة تمر “زاهدي” لتقديمه للضيف، وفي طريق العودة تقاسمت أم مايد إحدى الحبات مع صديقتها خدوي من شدة الجوع، وقدمت الحبات المتبقية للضيف.
وليس تقاسم التمر أقصى ما يروى حول فترة المجاعة التي كانت تمر بها المنطقة، فقد كان “الخصب أو قلة التمر”؛ وهو الوعاء المصنوع من سعف النخيل الذي يوضع فيه التمر مع الماء، وبعد أن ينفد، يشرب الماء لسد جوع أفراد الأسرة. أما القهوة فكانت تعد من “العيش” أو الأرز المحروق والمطحون عندما لا يجدونها.
سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر |
تقول أم مايد: “كنا ننش من الصبح ونروح ضاية نلقط الخلال من الأرض، وكنا ندق النبق الجاف بالمنحاس وناكله، ونلقط الحبوب من الزرع ونفورها ونغتاث بها”.
وتفتخر بأيام شبابها واصفة نفسها “بهبة الريح”، عندما كانت “تروّي” الماء من بئر في “الغيل”، فتقطع مسافة طويلة ذهاباً وعودة بعد صلاة الفجر؛ حتى يجد كل من في البيت ماءً للشرب والوضوء و”السبوح”. وتسرد قصتها عندما قرر بومايد أن يبني لها “مخزن يديد”: “نشيت من الغبشة وحطّيت الأبياب على الحمار وسرت الغيل وروّيت، وأنا راجعة سمعت أذان الفجر، ويوم ردّيت ساندت 21 جندله على الجدار، وعينت اليص اللي بيخدمون فيه المخزن، واترييت ينشّون من الرقاد”، وتضحك أم مايد على نفسها؛ حيث انتظرت “نشّتهم” طويلاً، فقد ذهبت وعادت من دون أن تدرك أن أذان الفجر لم يحن بعد؛ من شدة لهفتها لبناء المخزن.
اليوم لدى أم مايد ما لا يقل عن 68 حفيداً من 7 أبناء، ومن الحكايات الطريفة التي ترويها عن أبنائها ما كان يحدث بشكل متكرر مع ابنها الأكبر مايد فينجو بحياته مرات عدة من الموت بأعجوبة، حيث كاد أن يغرق في البحر مرة فانتشله أحد الجيران، وشرب “الجاز” مرة أخرى وتم إنقاذه، وتصفه بقولها: “هذا قطو بسبع أرواح”.