الحمد لله العالم بالبواطن والظواهر، المطلع على جليل الأمور ودقيقها، والصلاة والسلام على خاتم أنبيائه الراجي أن يكون أخشانا لله، وأعلمنا بما يتقي، وعلى آله وأصحابه الركع السجود، ومن تبعه على الحق والهدى إلى يوم الحشر والتناد.
أما بعد، فيا طالب العلم والهدى ـ رزقك الله خشيته في السر والعلن ـ:
إن من بركة العلم بالسنة، والبصيرة بسبيل السلف الصالح وسلوكه، أن يُرى أثر ذلك وثمرته على صاحبه، فتراه في عبادته ومعاملته، وتشهده في علمه وتعلمه وتعليمه، وتبصره في سمته وهديه، وتلحظه في وقاره وسكينته، وتلمسه في خُلقه وأدبه، ويَبِين لك في مدخله ومخرجة، ووقت حله وترحاله، ويكون مع القريب والبعيد، والموافق والمخالف، والعدو البغيض.
وقد ضرب لنا السلف الصالح ـ رحمهم الله ـ في ذلك أمثلة طيبة جميلة، وصوراً مشرقة مضيئة، وسيرة عالية زكية.
فقد ثبت عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: (( كانَ الرجل مِنَّا إذا تعلَّم عَشْر آياتٍ لم يجاوزهُنّ حتى يعرف معانيهُنَّ، والعملَ بهنَّ )).
وثبت عن عطاء بن السائب أن أبا عبد الرحمن السلمي ـ رحمه الله ـ قال: (( إنا أخذنا هذا القرآن عن قوم أخبرونا أنهم كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يجاوزوهن إلى العشر الأُخر حتى يعلموا ما فيهن، فكنا نتعلم القرآن والعمل به، وإنه سيرث القرآن بعدنا قوم ليشربونه شرب الماء لا يجاوز تراقيهم بل لا يجاوز ها هنا، ووضع يده على الحلق )).
وقال الإمام عبد الرحمن بن مهدي ـ رحمه الله ـ: سمعت سفيان الثوري يقول: (( مَا بَلَغَنِي عَنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيْثٌ قَطُّ، إِلاَّ عَمِلْتُ بِهِ، وَلَوْ مَرَّةً )).
وقال المَرُّوْذِيُّ ـ رحمه الله ـ: قال لِي أبو عبد الله ـ يعني: به الأمام أحمد بن حنبل ـ: (( مَا كَتَبْتُ حَدِيْثاً إِلاَّ وَقَدْ عَمِلتُ بِهِ، حَتَّى مَرَّ بِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ، وَأَعْطَى أَبَا طَيْبَةَ دِيْنَاراً، فَأَعطيتُ الحَجَّامَ دِيْنَاراً حِيْنَ احتَجمتُ )).
وثبت عن الإمام وكيع بن الجراح ـ رحمه الله ـ أنه قال: (( كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به )).
وثبت عن أبي قلابة التابعي ـ رحمه الله ـ أنه قال لأحد تلاميذه: (( إِذَا أَحْدَثَ اللَّهُ لَكَ عِلْمًا فَأَحْدِثْ لَهُ عِبَادَةً، وَلَا يَكُنْ إِنَّمَا هَمُّكَ أَنْ تُحَدِّثَ بِهِ النَّاسَ )).
وثبت عن سفيان الثوري ـ رحمه الله ـ أنه قال: ((زَيِّنُوا الْعِلْمَ بِأَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَزَيَّنُوا بِالْعِلْمِ )).
وقال الخطيب البغدادي ـ رحمه الله ـ في مقدمة كتابه "اقتضاء العلم العمل"(ص14-16):
وَهَلْ أَدْرَكَ مِنَ السَّلَفِ الْمَاضِينَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى إِلَّا بِإِخْلَاصِ الْمُعْتَقَدِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالزُّهْدِ الْغَالِبِ فِي كُلِّ مَا رَاقَ مِنَ الدُّنْيَا.اهـ
وقال الحسن البصري ـ رحمه الله ـ: (( الذي يفوق الناس في العلم جدير أن يفوقهم في العمل )) .
وثبت عن عبد الله بن المبارك ـ رحمه الله ـ أنه قال: (( أكثركم علماً ينبغي أن يكون أشدكم خوفاً )) .
سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر |
وثبت عن سفيان الثوري ـ رحمه الله ـ أنه قال: (( إِنَّمَا يُتَعَلَّمُ الْعِلْمُ لِيُتَّقَى اللَّهُ بِهِ، وَإِنَّمَا فُضِّلَ الْعِلْمُ عَلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ يُتَّقَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ )).
ويا لله ما أشنع عدم العمل بالعلم، وما أعظم خطره على العالم والمتعلم وأشده، وما أقبح أثره وعاقبته، فقد أنكره الله ـ عز وجل ـ على فاعليه أشد الإنكار، وأبان أنه يسبب مقته الشديد، فقال سبحانه في سورة الصف: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ }.
فينبغي للعالم والمتعلم، ينبغي للآمر بالخير أن يكون أول الناس مبادرة إليه، وللناهي عن الشر أن يكون أبعد الناس منه، فقد قال الله تعالى في أوائل سورة البقرة منكراً على حملة العلم والشريعة: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ }.
وقال الإمام سفيان الثوري ـ رحمه الله ـ : (( يهتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل )).
وثبت عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: ((مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا سيَخْلُو بِهِ رَبُّهُ كَمَا يَخْلُو أَحَدُكُمْ بِالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، ثُمَّ يَقُولُ: ابْنَ آدَمَ، مَا غَرَّكَ بِي؟ يَا ابْنَ آدَمَ، مَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ؟ يَا ابْنَ آدَمَ، مَاذَا أَجَبْتَ الْمُرْسَلِينَ؟ )).
وثبت عن أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: (( إِنَّمَا أَخَافُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ مَا يَسْأَلُنِي عَنْهُ رَبِّي أَنْ يَقُولَ: قَدْ عَلِمْتَ فَمَا عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ )).