سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر |
أطفال ونساء وشباب في قطاع غزة يهجرون منازلهم يومياً منذ ساعات الصباح الباكر وحتى ما بعد الغروب إلى منطقة كثبان رملية في خان يونس جنوب القطاع، يحفرون الأرض بضعة أمتار بواسطة أدوات يدوية ويغربلون الرمال، بحثاً عن الحصى والحجارة الصغيرة، لبيعها بأرخص الأثمان ليوفروا لقمة العيش لاستمرار بقائهم، بينما يباع هذا الحصى إلى تجار في محاولة لتوفير بديل لمواد البناء المفقودة بفعل إغلاق المعابر، ففي كل يوم يشتد فيه الحصار على القطاع، يكتشف سكانه بدائل يواجهون فيها ظروفهم القاسية، فبعد أن حفروا الأنفاق على طول الشريط الحدودي مع الجانب المصري، لجأوا إلى الأرض مرة أخرى للتنقيب عن الحصى في بطنها.
وكانت منطقة الكثبان الرملية هذه الأشبه بالصحراء جزءاً من مستوطنة إسرائيلية، كانت تعرف باسم «غوش قطيف» قبل انسحاب قوات الاحتلال من القطاع في ،2005 وقد تحولت قبل أكثر من أسبوعين إلى ساحة عمل لاستخراج الحصى من تربتها وما تبقى من «الفسكورس» الذي كان يستخدمه الاحتلال في الإنشاءات داخل المستوطنات.
مهنة الفقراء
كانت «الإمارات اليوم» حاضرة في تلك المنطقة التي تعج بالغزيين في وقت الظهيرة، وكان الكل يعمل من دون كلل، الصغير قبل الكبير، فالطفل ثائر الأقرع (11 عاماً) يخرج يومياً من السادسة صباحاً برفقة والديه من منزلهم في بلدة دير البلح وسط قطاع غزة إلى منطقة كثبان رملية غرب خان يونس جنوباً، حاملين أدوات حفر يدوية و«غربالاً»، وينتهي عملهم بعد غروب الشمس، وقد حصلوا بشق الأنفس على شواكل تسد رمقهم.
وقال الطفل ثائر، وقد اختلط غبار الأتربة مع الهموم التي ارتسمت على وجهه، نتيجة تنقيبه عن الحصى في حفرة عمقها مترين «استثمرت الإجازة الدراسية للفصل الأول، لكي أساعد أبي وأمي على توفير لقمة العيش لإخوتي، خصوصاً أن غالبيتهم إناث، فأحفر وأغربل الرمال وأجمع الحصى وأضعها في أكياس».
وأضاف، وفي عينيه ألم تدهور وضع عائلته المادي، «هذا عمل متعب وشاق، لكنه أهون علي من أن نتمنى الحاجة أنا وإخوتي ولا نجدها، وأبي عاجز عن توفيرها لنا، بعد أن فقد عمله بفعل إغلاق المعابر».
وقال إبراهيم الأقرع (39 عاماً والد الطفل ثائر)، وهو يستخرج الرمال المختلطة بالحصى حتى يتم غربلتها، « احتياجات أطفالي هي التي دفعتني إلى هذا، ذقنا الذل بفعل الفقر والحصار، وأنا عاطل عن العمل منذ ثلاث سنوات، فنحضر يوميا منذ السادسة صباحاً نحفر الأرض بعمق مترين، حتى نصل إلى منطقة تجمع الحصى ومن ثم نغربل الرمال، بواسطة حتى يتبقى الحصى والحجارة، وبعد ذلك، نجمعها في أكياس كبيرة».
وأضاف «نبيع أكياس الحصى إلى التجار وبعض الأهالي الذين هم في حاجة إلى بناء منازلهم، ويبلغ ثمن الكيس الواحد ما يقارب ثلاثة شواكل (أقل من دولار واحد)، وأحصّل في اليوم الواحد ما يقارب 60 شيكل (ما يقارب 15 دولاراً)».
وعلى بعد أمتار، كان أبونادر يأخذ قسطا من الراحة بجانب حفرة حفرها وأطفاله، بعد ساعات من العمل الشاق، وقال «غالبية العمال العاطلين عن العمل والعائلات الفقيرة يمتهنون هذه المهنة المؤقتة مع عائلاتهم، بدافع البحث عن لقمة العيش، حيث تتحول المنطقة التي لا تتعدى مساحتها عشرات الدونمات إلى ساحة عمل لأكثر من 1000 مواطن غزي من أطفال ونساء وشباب».
وأضاف «تم اكتشاف الظاهرة قبل أكثر من شهر بواسطة شباب قهرتهم البطالة بفعل الحصار، حيث كانوا يحضرون إلى المكان، واكتشفوا الأمر بدافع البحث عن فرصة عمل تساعدهم على البقاء في حياتهم القاسية».
ومكث أبونادر أكثر من أربعة أيام يحفر حفرة عمقها أكثر من مترين وبطول 10 أمتار، حتى عثر على الحصى، وبعد ذلك يعكف وأطفاله على غربلة الحصى وفرزها حسب حجمها، ثم تعبئتها في أكياس كبيرة، وكل هذا التعب، بحسب أبونادر، حتى يغنموا بعد ساعات من العمل الشاق على ثمن زهيد لا يتعدى 3 شواكل مقابل الكيس الواحد.
وأوضح أن الحصى التي يشتريها التجار يتم تكسيرها بواسطة آلة خاصة «كسارة» لتكون بديلاً عن مواد البناء التي فقدها القطاع بفعل إغلاق المعابر.
عمل مؤقت
وكان محمد أبو إسماعيل يتعالى على آلام تصيب ظهره، وهو يحفر في حفرة عمقها أكثر من مترين، وإلى جانبه أطفاله الخمسة يغربلون الرمال وينقبون عن الحصى، لعلهم يتمكنون من تعبئة عدد أكبر من الأكياس قبل غروب الشمس، فهذه الآلام بالنسبة له أرحم بكثير من أن يرى أطفاله يتضورون جوعا وهو عاجز أمام توفير احتياجاتهم الضرورية.
وقال أبو إسماعيل، ومعالم البؤس ترتسم على ملامحه، «أتألم وزوجتي لهذا العمل المؤقت الذي لجأت إليه، لكنه أرحم بكثير من أن نقف عاجزين عن توفير لقمة العيش وأدنى الاحتياجات لأطفالي، فلا يوجد لدي فرصة عمل حتى أوفر احتياجاتهم، فأضطر لأن أواجه المخاطر، وأقبل بأي عمل حتى لا أتحمل ذنب هؤلاء الأطفال الذين من حقهم أن يناموا، وهو لا يتضورون جوعاً».
وأضاف «أحضر أنا وخمسة من أطفالي يوميا منذ ساعات الصباح، على الرغم من البرد والأمطار، أحفر أنا الأرض، ويساعدني أطفالي في غربلة الرمال وجمع الحصى وتعبئتها في الأكياس».
وكانت أم حسين وابنها يحفران في أول يوم لهما، وكانت مترددة في القدوم إلى المنطقة التي تحولت إلى ساحة عمل. ولكن، مع الإقبال الكبير لعائلات فقيرة إضافة إلى الأوضاع القاسية التي تمر بها أسرتها ما دفعها إلى ذلك. وتقول بمرارة «حياتنا كلها تعب، فبعد تردد، قررت وزوجي أن نتذوق التعب الذي قد يوفر لنا مالا قليلا، فقد جئنا إلى هنا لنوفر احتياجات أبنائنا الصغار والكبار، لاسيما أن لدينا طلبة جامعات».
وأضافت «هذا العمل مؤقت، قد يستمر شهراً أو أكثر، ولكن الأرض لن تنبع حجارة، خصوصاً في ظل إقبال كبير من الناس، فستنتهي الحجارة من الأرض، ونعود لنتجرع المرارة من جديد. ومع ذلك، لن نيأس ولن نستسلم للفقر والحصار، فإسرائيل تحاصرنا وتخنقنا، ولكن الله عز وجل يفتح أبواب رزقه علينا، ولن يتخلى عنا».
وليس بعيداً عن أم حسين وابنها، كان ثائر أبوعبيدة (16 عاما) ينقب عن الحصى في حفرة عمقها أكثر من مترين، غير مكترث بما قد يصيبه من آلام وأمراض نتيجة العمل الشاق، فهو يبحث عن بصيص أمل بين الرمال يهون من آلام تصيبه هو وأسرته.
وقال «أحضر هنا لأوفر احتياجاتي وأساعد والدي على إعالة أشقائي، فأقوم وعدد من أصدقائي بالحفر والبحث، وأحصل على 30 شيكل في اليوم الواحد، وذلك بعد أكثر من 12 ساعة عمل متواصلة».
محاولات وأضرار
وقال وزير الأشغال العامة في الحكومة الفلسطينية المقالة في غزة، يوسف المنسي، لـ«الإمارات اليوم» « هذه الظاهرة محاولات فردية من عدد من الأهالي والعائلات، لتوفير لقمة عيش ومواجهة الفقر المدقع الذي يعصف بهم، ولا علاقة للحكومة بها، حيث يتم بيعها لبعض التجار، ولا تسهم في إعادة إعمار قطاع غزة، فهي توفر فقط حصى تستخدم في صناعة البلوك وبعض الخرسانة، ولا تلبي الاحتياجات الكبيرة لبناء آلاف الوحدات السكنية والمباني التي تضررت في الحرب».
وأضاف «تبقى هذه المحاولات خطوة من خطوات الناس المحاصرين لإيجاد بدائل عن مواد البناء المفقودة بفعل إغلاق المعابر، ولدينا في وزارة الأشغال العامة بدائل نقوم بها لتوفير الحصى، حيث نكسر ركام المنازل والمباني المدمرة خلال الحرب الأخيرة بواسطة آلة خاصة (كسارة)، وتستخدم لصناعة البلوك والخرسانة».
وتضرهذه الحفريات بحسب المنسي، بالتربة الطبيعية لهذه الأراضي، حيث تؤثر في تماسك هذه التربة من خلال جمع الحصى من بطنها، وتجعلها غير صالحة لأي استخدام. وقد يساء استخدام هذه الحُفر، مثل أن تتحول إلى أماكن لكب النفايات فيها أو لتجمع مياه الأمطار، لاسيما أن هذا العمل جهد فردي وغير مدروس.